الحديث مع سمو الشيخ سرور بن محمد آل نهيان أمر يجمع بين المتعة والمعرفة فهو قد كان ممسكاً بواحد من أهم الملفات في إمارة أبوظبي خلال السنوات الأولى لقيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة وهو ملف المياه والكهرباء، وهما عصب الحياة الحديثة، في إمارة كانت تتطلع لحياة أفضل تودع فيها الماضي بقسوته وبيئته الصحراوية التي تقل فيها المياه إلى حد الانعدام وترتفع فيها درجات الحرارة والرطوبة لمستويات تكاد تكون قياسية وهي تفتقد لكل مقومات البنية الأساسية والكوادر الوطنية المؤهلة.
وقد كُتب الكثير عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها دولتنا الحبيبة في ذلك الوقت ولكن ليس لدينا صورة واضحة عن مشاعر الناس الذين عاشوا تلك التجربة لنستشف منهم كيف عاشوها، فلذلك كان للمكتب الإعلامي لشركة أبوظبي للتوزيع هذا اللقاء الخاص والحصري مع سمو الشيخ سرور بن محمد آل نهيان، الرئيس السابق لدائرة الماء والكهرباء بأمارة أبوظبي، 74-1998، ننشره في مجلة توزيع بالتزامن مع الاحتفال بالعيد الوطني الأربعين لدولة الإمارات العربية المتحدة. وعندما جلسنا في مكتبه فتح لنا الرجل بلغة الأرقام والأحداث والتاريخ خزانة أسرار البدايات الأولى لصناعة المياه والكهرباء منذ أن كانت بذرة في جوف الأرض ثم أصبحت نبتة فشجرة فدوحة وارفة تفيء بظلالها الجميع.
وبدأ سمو الشيخ سرور حديثه قائلاً: "لقد كلفني سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، حادي الركب وقائد المسيرة ومفجر الشرارة الأولى للاتحاد، بهذا المنصب الهام ووجدت كل الدعم والمساندة من سمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي ورئيس المجلس التنفيذي آنذاك، طيلة فترة عملي فيه".
وكان سمو الشيخ زايد بن سلطان قد أمر فور توليه الحكم في إمارة أبوظبي عام 1966 بتشكيل مجلس لإدارة المياه والكهرباء برئاسة سمو الشيخ حمدان بن محمد آل نهيان، وفي عام 1970 تم دمج دائرتي الماء والكهرباء تحت اسم "دائرة الماء والكهرباء" وأسندت رئاستها لسمو الشيخ خليفة بن محمد آل نهيان إلى أن تولى سمو الشيخ سرور منصب رئيسها في عام 1974 إلى حين إنشاء هيئة مياه وكهرباء أبوظبي في عام 1999 وهي الفترة التي شهد فيها هذا القطاع الكثير من التطورات الهامة.
الباور هاوس Powerhouse:
بدأ سمو الشيخ سرور حديثة قائلاً: "في الفترة التي سبقت تولي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي، كانت هنالك محطة واحدة للكهرباء بطاقة 6 ميغاواط فقط تديرها شركة هاوكر سيدليHawker Siddeley) ) البريطانية في المنطقة المعروفة اليوم باسم مدينة زايد ولذلك أصبح يطلق عليها منطقة الباور هاوس Powerhouse إلى يومنا هذا، وكانت هذه المحطة بالكاد تكفي احتياجات المدينة وسكانها من الكهرباء". وخلال فترة بداية السبعينات كانت هنالك محطة واحدة لإنتاج الكهرباء تقع في منطقة النادي السياحي مقابل الميناء مزودة بمقطرات لتحلية المياه بطاقة إنتاجية تبلغ 500 ألف جالون في اليوم تقريباً ويديرها مهندس باكستاني اسمه حبيب أحمد كان مبعوثاً من الحكومة الباكستانية برئاسة الرئيس الباكستاني الأسبق ذو الفقار على بوتو، وعمل كمدير عام للدائرة، وكان رجلاً متفانياً في عمله، ثم عينّا مهندساً من جمهورية مصر العربية اسمه غنيم عبدالباقي للعمل كمدير عام للمحطات.
دائرة الماء والكهرباء:
وحول قصة تولّيه ملف الماء والكهرباء بأبوظبي يقول الشيخ سرور: "كنت أجلس مع المرحوم سمو الشيخ زايد في أحد الأيام من سنة 1974 فكلفني بتولي رئاسة "دائرة الماء والكهرباء" وعندها أحسست بكبر المسؤولية خصوصاً أنه لم يكن لدي خبرة في هذا المجال وكانت المدينة قد شهدت زيادة كبيرة في الطلب على خدمات الماء والكهرباء مما جعلها تعاني من انقطاع هذه الخدمات بصورة متكررة.
تحدي الماء:
ويقول سمو الشيخ سرور: "وفور تولي شؤون الدائرة أدركت أن التحدي الأكبر بالنسبة لي هو توفير المياه فهي مسألة حياة أو موت خصوصاً نظراً للظروف المناخية للدولة التي تعتبر من أقسى المناخات مع شح في المياه، حيث كان هنالك خطاً واحداً لجلب المياه لأبوظبي من منطقة الساد في العين بقطر 6 بوصة فقط، وكان لابد من الاستعانة بالخبرات الأجنبية للتغلب على هذه المشاكل وبعد نقاش مع المهندسين المعنيين قمت بالاتصال بالسفير البريطاني في أبوظبي لطلب المساعدة منه عبر إحضار شخصين متخصصين في هذا المجال من بريطانيا للقيام بأعمال الإشراف والتخطيط والصيانة وبالفعل في ظرف أربع وعشرين ساعة وصل خبيران من شركة London Electricity Company والتحق بنا مهندسان مواطنان هما عبدالله ناصر بن حويليل المنصوري وصياح بن موسى القبيسي، اللذان درسا في بريطانيا، وكانت تلك هي بداية التخطيط الفعلي لخدمات المياه والكهرباء في أبوظبي ووضعنا خطة لمدة خمس سنوات.
توربينات:
ثم قمنا بجلب نحو 15 مولد توربيني تعمل بالغاز ومقطرين للمياه يعملان بالبخار بطاقة ثلاثة مليون جالون في اليوم لكل منهما، كأول محطة لتقطير المياه في أبوظبي، من شركة "جنرال إلكتري����" الأمريكية استغرق جلب هذه الماكينات نحو 12 شهراً ثم استقطبنا خبيراً مصرياً في المقطرات والمهندس المواطن د. درويش القبيسي للعمل في التخطيط. ولكن رغم ذلك كانت المدينة كثيراً ما تشهد حالات انقطاع للكهرباء والمياه وبصورة متكررة وذلك بسبب عدم توفر قطع الغيار ولذلك كان المهندسون المواطنون يمكثون للعمل في المحطة طيلة الأربع والعشرين ساعة.
مياه الفجيرة:
ويقول الشيخ سرور أنه في العام 1977: "طلبنا من شركة أمريكية إجراء دراسة حول المياه في أبوظبي وصدرت الدراسة في العام 1978 حيث أوصت الشركة فيها بإنشاء محطة لتحلية المياه في الفجيرة وذلك لأن نسبة الشوائب والملوحة في مياه بحر العرب تقل بنسبة 30% مقارنة بمياه الخليج إضافة لارتفاع الأرض في منطقة الفجيرة سوف يقللان تكلفة إنتاج وتوصيل المياه لأبوظبي بنسبة 45% وكانت هذه هي النواة الأولى لمشروع مياه الفجيرة الذي تم تنفيذه خلال الفترة الأخيرة".
مياه باكستان:
ويضيف سمو الشيخ سرور أنه في بداية التسعينات تلقت الدائرة دراسة أعدتها الحكومة الباكستانية لنقل المياه من باكستان لأبوظبي عبر الفجيرة: " كانت الفكرة هي إقامة سد في باكستان ثم نقل المياه عبر بحر العرب إلى المناطق الشرقية من الدولة ومن ثم لأبوظبي ولكننا وجدنا صعوبة في تنفيذ ذلك نسبة للعمق الكبير لبحر العرب".
أم النار:
ولمحطة أم النار قصة في ذاكرة سمو الشيخ سرور: "بناء على توصية تضمنتها دراسة أجرتها شركة مايا الألمانية، تم نقل المحطة لموقعها الحالي في منطقة أم النار وبدأت التشغيل التجريبي في العام 1978 وهي نفس الفترة التي انضم فيها للعمل معنا المهندسان المواطنان حسن النساي مسئولاً عن المياه وأحمد سعيد المريخي ككبير مهندسي الكهرباء".
أداء وتفاني:
ويشير سمو الشيخ سرور لأداء المهندسين المواطنين: "كانوا متفانين في عملهم بصورة كبيرة ويبذلون أقصى ما لديهم من أجل مصلحة العمل، وعلى سبيل المثال أذكر أن خط للمياه تعرض للكسر بمنطقة المفرق فمكث المهندس حسن النساي في الموقع لأكثر من أربع وعشرين ساعة متواصلة حتى تم إصلاح الكسر وإعادة خدمة المياه".
ويضيف الشيخ سرور أن المهندسين المواطنين الدكتور درويش القبيسي وحسن الحوسني قاما بإكمال التخطيط ووضعا دراسة لإنشاء محطة جديدة وهو ما تم في أواخر الثمانينات بسعة 1000 ميغا واط وبتكلفة 75 مليون دولار ويستدرك قائلاً: "في أوائل التسعينات حدثت أزمة في معدات إنتاج الكهرباء في العالم فقمنا ببيع هذه المحطة بمبلغ 125 مليون دولار". ويضيف: "تقدمنا بطلب خاص لتوريد مقطرات للمياه الواحد منها بطاقة 12 مليون غالون في اليوم لتركيبها في الطويلة وذلك كان حدثاً كبيراً في تلك الفترة ولم تشهد المنطقة مثله من قبل وهذه المقطرات مازالت تعمل إلى يومنا هذا ويمكنها العمل لفترة زمنية قادمة تساوى الفترة التي عملتها". وبهذا أصبحت الإمارة تمتلك ثلاث محطات كبيرة، وهي أم النار والطويلة والمرفأ تكفي حاجة الإمارة من الماء والكهرباء: "ثم تحولنا من بعد ذلك لتطوير شبكة التوزيع وهو ما تم على مراحل متعددة حققت طفرة كبيرة في خدمات الماء والكهرباء".
موقف مع زايد:
ومن المواقف التي يتذكرها الشيخ سرور خلال عمله في الدائرة: "كنت في أحد الأيام أركب السيارة مع سمو الشيخ زايد ونحن نهم بالخروج من قصر البحر، الذي كان تحت التشييد، ثم فجأة انقطعت الكهرباء من المدينة بالكامل فشعرت بالحرج منه وطلبت الإذن بالذهاب لتفقد الأمر، ولكنه، وبحكمته المعهودة، طلب مني الهدوء وقال لي أن الأمور ستتم معالجتها على الفور، وهذا الموقف يُعطي لمحة عن شخصية الشيخ زايد الحكيمة التي لا تتعجل اتخاذ القرارات وهي نفس الطريقة التي كان يعامل بها كل من عمل معه دون استثناء". بُعد نظر: ويتوقف الشيخ سرور قليلاً ويتذكر: "عند إنشاء محطة أم النار وجه المرحوم سمو الشيخ زايد بأن تكون الطاقة الإنتاجية لكل واحدة من المقطرات فيها 12 مليون جالون في اليوم قائلاً: "نحن نريد هذه الكمية من المياه وسنحتاج لها في يوم من الأيام" وهذا ما يؤكد بعد فكره ونظرته المستقبلية للأمور". وبعيداً عن ذكريات الماء والكهرباء، انتقلنا لنتعرف على جوانب أخرى من حياته فتحدث بروح جميلة وبلغة بسيطة...
رحلته اليومية:
يلخص سمو الشيخ سرور جدول حياته اليومية في: "من لم يشهد منظر شروق الشمس في الفجر فقد خسر يومه كله" فهو يبدأ يومه بعد صلاة الفجر ثم ممارسة رياضة المشي وتناول وجبة الإفطار والتوجه لمجلسه بالقصر لاستقبال زواره وأصدقائه لتبادل أطراف الحديث وشئون الحياة اليومية وينطلق بعدها لمتابعة أعماله الخاصة.
سموه والمسؤولية الاجتماعية:
ويقول سمو الشيخ سرور: "ماجاك يطلبك إلا وهو محتاج" في رده على سؤالنا حول دوره اتجاه المسؤولية الاجتماعية. ويحرص سمو الشيخ على القيام بأعمال الخير مثل سداد نفقات أداء فريضة الحج والعلاج للمحتاجين وبناء المساجد وحفر الآبار في المناطق الفقيرة في أفريقا وآسيا، وبابه مفتوح لا يرد سائلاً أو محتاجاً. صلته بالشيخ زايد: ولد سمو الشيخ سرور في العام 1948 بمدينة العين, ووالده هو ابن عم المرحوم سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ولديه من الأبناء أربعة هم الشيخ محمد والشيخ زايد والشيخة فاطمة والشيخة شيخه وحفيدته الوحيدة هي الشيخة شما.
هواياته:
لا يخفي سمو الشيخ سرور عشقه الكبير للصيد والسباحة ورياضة المشي والأخيرة يمارسها بصورة يومية في الصباح والمساء.
آخر لقاء:
لم يترك سمو الشيخ سرور فرصة خلال اللقاء معه إلا وعبر فيها عن حزنه على وفاة المرحوم سمو الشيخ زايد الذي: "كنت على تواصل مع سمو الشيخ زايد لنحو أربعين عاماً دون انقطاع لم أشعر فيها في يوم من الأيام أن قلبه قد توقف عن حب هذه البلاد وأهلها أو أن عقله قد كل أو مل من العمل في سبيل رفعتها أو ادخر شيئاً لخلاف ذلك وأعتبره في مقام الوالد والمربي والمعلم وليس القائد فحسب". عند سؤالنا عن أخر لقاء له مع المرحوم الشيخ زايد رحمة الله عليه، تأثر كثيراً وأدمعت عيناه حزناً على فراقه وقال: " كان ذلك قبل فترة بسيطة من وفاته، عليه رحمة الله، حيث كنت مع أخي الشيخ طحنون بن محمد فتلقيت اتصالاً من سمو الشيخ زايد فطلبنا للمقابلة وبالفعل ذهبنا إليه وقابلناه بالقرب من أحد الجسور على شارع مصفح، حيث كان من عادته القيام بجولات لتفقد الأحوال العامة في الإمارة، فأمسك بيدي بقوة ويسألني عن صحتي وأحوالي كأنه كان يعلم أن ذلك هو الوداع الأخير فتأثرت جداً لذلك" وعندها سكت سمو الشيخ سرور قليلاً وأضاف: "ولن أنسى تلك اللحظة أبداً طيلة حياتي".
كلمة للعاملين:
وفي ختام حديثه وجّه سموه كلمة للعاملين في قطاع الماء والكهرباء قائلاً: "إن هذا القطاع يعتبر من أهم القطاعات التي تقوم عليها نهضة وتقدم الدول وإن ما وصلنا إليه اليوم من خير اليوم إنما هو نتاج قصة جهد وصبر وتعاون عاشتها دولة الإمارات خلال السنوات الأولى لقيام الاتحاد بهدف توفير حياة كريمة لجميع أبنائها فهي أمانة في أعناقكم فلتحافظوا عليها واعملوا على الدفع بهذا القطاع الهام لمصلحة الأجيال القادمة".