تشكلت الملامح الأولية لقصة العشق التي ربطت المهندس سيف ناصر هرهرا مع الكهرباء في أبوظبي منذ أن التحق بدائرة الكهرباء في عام 1967 وتراكمت فصولها بحلوها ومرها ومدها وجذرها إلى أنهى حياته العملية كمدير لإدارة شبكة الكهرباء في شركة أبوظبي للتوزيع وهو في عمر الستين في عام 2006، بعد خدمة امتدت لأكثر من 38 عاماً، وتبقى منها الكثير من ملامح العلاقات الطيبة والذكريات الجميلة تروى للأجيال جانباً من رواية النفر الذي نحت الصخر وشق دروب الصحراء وهو يتلمس الخطى لرسم الخطوط الأولى لبدايات الكهرباء في أبوظبي.
يقول هرهرا : "أنا سعيد بكوني عملت في مجال توزيع الكهرباء في أبوظبي خلال هذه الفترة الطويلة التي شهدت النهضة العمرانية والتحول الكبير الذي مرت به الإمارة تحت قيادة الراحل العظيم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله".
ويروي قصة انضمامه للدائرة، قائلاً: " كنت في البحرين في منتصف الستينات وسمعت من بعض الأصدقاء أن إمارة أبوظبي ومنذ أن تولى الحكم فيها الراحل سمو الشيخ زايد في عام 1966، أصبحت تشهد حركة عمرانية كبيرة في كافة المجالات وتوفرت فيها العديد من فرص العمل لكل التخصصات، وبالفعل أرسلت أوراقي عن طريق البريد لدائرة الكهرباء فيها وعلى الفور جاء الرد بالإيجاب، وتضمن العرض راتباً ومميزات أخرى مغرية، بمقاييس ذلك الزمان، وتكفلت الدائرة بتكاليف سفري من البحرين". ويؤكد هرهرة مبتسماً: "تم قبولي دون توسط من أي شخص ولم أكن أعرف أحد أو حتى يعرفني أحد هنا". ويضيف: "أصبح يوم 6 يونيو 1967 من الأيام التي لا تُنسى في حياتي، حيث جئت لأبوظبي لأول مرة على متن طائرة شركة طيران الخليج القادمة من البحرين ومنذ اللحظة الأولى أحسست أن حياتي سترتبط بهذا المكان إلى آخر العمر". ووجدت الإمارة تشهد حركة دائبة من العمران، مثل العمل في طريق أبوظبي العين وعدداً من المشاريع السكانية الأخرى، حيث كانت تعاني من نقص شديد في الوحدات السكنية، ويقول: "الفندق الوحيد كان هو "فندق الشاطئ" الذي كان في نفس الموقع الذي يوجد فيه اليوم مستشفى الكورنيش ويتطلب النزول فيه الحجز قبل شهر على الأقل، وتم أسكاني أولاً، ولعدة شهور، في الاستراحة الحكومية مع عدد كبير من الموظفين الجدد".
ويقول هرهرا: "كانت الدائرة عبارة عن إدارة حكومية منفصلة عن إدارة الماء ويترأسها الشيخ خليفة بن محمد آل نهيان ونائبه السيد شبيب أحمد الظاهري وتمثلت مهامها في أعمال خدمة العملاء وإصدار وتحصيل فواتير الاستهلاك، بينما تولت دائرة التنمية والأشغال العامة، برئاسة الراحل الشيخ حمدان بن محمد آل نهيان، مهام تنفيذ المشاريع، بما فيها إنشاء محطات الطاقة. وفور إعادة تشكيل المؤسسات والدوائر التابعة لحكومة أبوظبي في عام 1970 تم دمج دائرتي الماء والكهرباء تحت مسمى "دائرة الماء والكهرباء" التي مُنحت صلاحيات واسعة للقيام بالأعمال المتعلقة بالتوليد والنقل والتوزيع. وفي عام 1973 أصبح الشيخ سرور بن محمد آل نهيان رئيساً لهذه الدائرة وهي الفترة التي شهدت توسعات كبيرة في الإمارة وزيادة كبيرة على طلب الكهرباء مما تطلب التوسع في أعمال الدائرة حتى تتمكن من مقابلة هذا الطلب مما اُضطر العاملون في الدائرة للعمل ساعات طويلة وبصورة أكبر من طاقتهم وعندها لجأت الدائرة لاستقطاب كوادر بشرية من خارج الدولة، حيث تمت الاستعانة بفريق من الخبراء من المجلس المركزي لتوليد الكهرباء في بريطانيا "سي إي جي بي" للعمل لفترة بسيطة كمستشارين في المجال الإداري من بينهم السيد/ ديريك وليام، الذي شغل فيما بعد منصب أول مدير عام لشركة "ترانسكو" في ظل هيئة مياه وكهرباء أبوظبي عند تشكيلها بعد نحو ثلاثة عقود من ذلك.
وحول شبكة الكهرباء في ذلك الوقت، يقول هرهرا: "شهد عام 1967 تركيب محطة تعمل بالديزل في حوض 18 شرق، في نفس الموقع الذي توجد فيه مكاتب هيئة مياه وكهرباء أبوظبي اليوم، وتتكون من 3 مولدات بطاقة 1100 كيلووات/ساعة، وهى طاقة، بمقاييس اليوم، تكفي بالكاد لثلاثة أو أربعة مباني متوسطة الحجم بارتفاع 18 طابقاً، كما أن العمل كان يجري في تركيب وحدتين بقوة 2000 كيلووات لكل منهما وفي توسعة شبكة التوزيع لتستوعب الزيادة في الطاقة المنتجة". وكانت شركة "هاوكر سيدلي" البريطانية كانت هي الشركة المكلفة بتركيب وتشغيل وصيانة هذه المحطات وشبكات التوزيع المرتبطة بها، ويضيف: " كانت شبكة التوزيع بسيطة جداً وعبارة عن خمسة خطوط هوائية بقوة 11 كيلو فولت وخط واحد تحت الأرض قياس 95 ملم، الأخير يحمل معظم الطاقة المنتجة، وأقصى امتداد لهذه الشبكة هو مكاتب شركة أبوظبي للعمليات البترولية البرية "أدكو"أو ما كانت تعرف حينها باسم شركة أبوظبي للبترول "أيه دي بي سي" في منطقة الخالدية.
ويقول إن خطأ بسيطاً في القسم الأول من هذه الشبكة في سبتمبر 1967 أدى لانقطاع الكهرباء من كل المدينة ولمدة يومين ويضيف: "كنا نفتقد للمعدات اللازمة لتحديد موقع الخطأ والقيام بالإصلاح اللازم، حيث كان شركة "بي آي سي سي" البريطانية هي الشركة الوحيدة التي لديها فني لحام كابلات خطوط التوزيع قياس 11 كيلوفولت ويتنقل في عمله بين أبوظبي ودبي وأخيراً اضطررنا للجوء لفني يعمل بدائرة الكهرباء للقيام بهذا العمل". وفي منتصف عام 1968 تمكنت الشركة من تركيب وتشغيل وحدتي التوليد الجديدتين مما رفع الطاقة المنتجة إلى 7.5 ميجاوات وتم إضافة المزيد من محطات التوزيع الفرعية، ويقول: "تم ذلك بشكل أساسي لمد المباني الواقعة على الكورنيش، وبالتحديد في قطاعات 7 و5 و2 شرق والتي كانت تضم أهم المباني في المدينة مثل البنوك ودائرة الجمارك وشركات النقل البحري ودائرة الكهرباء ودائرة التنمية والأشغال العامة وشركة أدما للبترول والسوق القديم حيث لم تكن هنالك طرق ممهدة في هذه المنطقة والحد الفاصل بين المباني وشاطئ البحر عبارة أرض سبخة غير مسفلتة".
وكانت الطاقة المنتجة لا تلبي حاجة الطلب فلذلك لجأنا للحد من التوصيلات الجديدة، فلجأت الشركات الكبيرة والبنوك وغيرها لتركيب مولدات خاصة بها وأخذ الكهرباء من الشبكة العامة لفترات بسيطة لإجراء عمليات الصيانة على هذه المولدات، وأضاف: "لجأ بعض الناس لتشغيل مولدات وبيع الكهرباء منها بطريقة غير شرعية".
وفي عام 1968 عقدت دائرة التنمية والأشغال العامة اتفاقاً مع شركة "أوبانك وشركائه"، وهي شركة استشارية بريطانية أصبح اسمها اليوم "موت ماكدونالد"، للقيام بمشروع لتطوير قطاع الماء والكهرباء في مجالات التوليد والنقل والتوزيع لمقابلة الطلب المتنامي عليها في الإمارة، وبموجب هذه المشروع تم منح عدد من العقود الأخرى وبدأ العمل في محطة حديثة لتوليد الكهرباء تعمل بالغاز في شارع الميناء، وخلال ذلك تم إضافة محطة أخرى حديثة تعمل بالديزل تحت اسم "المحطة بي" بطاقة تبلغ 6 ميجاوات/ساعة بالقرب من المحطة الموجودة وذلك لمقابلة الطلب المحلي المتزايد على الكهرباء. وقامت الدائرة بتعيين شركة "بي آي سي سي" البريطانية وتحمل اليوم اسم شركة "بي كى غلف" للقيام بكافة الأعمال في شبكة التوزيع وتسليمها جاهزة للعمل. وأدى تشغيل محطة الغاز الجديدة مصحوبة بشبكتي توزيع بطاقة 33 كيلو فولت و11 كيلو فولت لتحسين أوضاع الكهرباء كثيراً في أبوظبي، ولكن ذلك لم يمنع من تكرار حالات الانقطاع المفاجئ في الكهرباء، خصوصاً خلال فترة الصيف، حتى منتصف السبعينيات.
وتم بعد ذلك تركيب وتشغيل أربع محطات فرعية بطاقة 33/11 كيلو فولت ومع كل منهما محولان بطاقة 15 ميجا فولت في كل من منطقة الميناء و الحوضين 9 و18 شرق والخالدية ومتصلة بخط مع محطة التوليد الغازي. ولاحقاً تم تركيب محولات أخرى في كل من الخالدية والحوض 9 شرق واثنين آخرين في حوض 18 شرق.
وفي وقت لاحق توقف التوسع في محطات بطاقة 33 كيلو فولت وأدخلت المحطات الفرعية بطاقة 132/11 كيلو فولت وهذا كان قراراً صائباً جداً خصوصاً أنه اتخذ خلال المراحل الأولى للتطوير الذي شهدته الإمارة وهي بذلك كانت أول من أدخل هذا النوع من المحطات في المنطقة، مما ساهم كثيراً في مقابلة الطلب الكبير الذي شهدته أبوظبي على الكهرباء خلال السنوات التالية. وتم تركيب أول هذه المحطات، بطاقة 132/11 كيلو فولت، في منطقة السوق، غرب 2، تبعتها منطقة الجوازات، غرب 24، والمستشفى، غرب 13، والبطين، غرب 16، والنادي السياحي، شرق13، وتبعتها مناطق أخرى كثيرة.
ويضيف هرهرا :" عندما حان وقت تقاعدي، في عام 2006، بلغ عدد المحطات الفرعية 18 محطة في مدينة أبوظبي وحدها بطاقة إجمالية تبلغ 2940 ميجا فولت أمبير وتجاوز الطلب على الطاقة 1500 ميجا فولت، بينما شارفت محطة كهرباء أبوظبي على انتهاء عمرها الافتراضي بعد التوسعات الكثيرة التي شهدتها وتم ربط المدينة مع شبكة شركة أبوظبي للنقل "ترانسكو" بخطين بطاقة 400 و220 كيلوفولت وذلك لتفادي أي نوع من الانقطاع التام للكهرباء، ومن ثم بدأ العمل في تحويل الخط سعة 220 كيلو فولت إلى آخر سعة 400 كيلو فولت".
ويقول: "مكث الشيخ سرور في منصبه إلى أن تم تشكيل هيئة مياه وكهرباء أبوظبي في عام 1998 برئاسة الشيخ ذياب بن زايد آل نهيان وتشكيل شركتي أبوظبي للتوزيع والعين للتوزيع، التابعتين للهيئة، للقيام بأعمال توزيع الماء والكهرباء كل في منطقتها وهذه كانت قفزة كبيرة للأمام نحو تحديث البنية التحتية في مجال الماء والكهرباء". ويمضي قائلاً: إن الفترة التي سبقت قيام الهيئة كانت فترة ناجحة فيما يتعلق بإيجاد نظام يعمل بصورة معقولة لإنتاج وتوزيع الطاقة وأدت إلى نتائج مقبولة، ولكنها كانت تفتقد للأدوات الحديثة الضرورية لإدارة شبكة بحجم شبكة الإمارة في ذلك الوقت، كما أن إنشاء الهيئة وما تلاها من إنشاء شركة أبوظبي للتوزيع قد غير هذا الوضع تماماً. حيث بدأت الهيئة ومنذ قيامها في تنفيذ برنامج شامل لتحديث شبكة التوزيع والأنظمة الإدارية المتبعة، ولأول مرة إدخال أنظمة تكنولوجيا المعلومات، التي لم تكن موجودة من قبل، مثل برنامج ماكسيمو لحساب التكاليف ووصيانة وإدارة المواد، و"سي سي آن دبي" لخدمة العملاء وإصدار الفواتير و"أتش آر أم أس" لإدارة الموارد البشرية و"جي آي أس" للمعلومات الجغرافية في كل الشركات التابعة لها وتم تدريب كافة العاملين فيها على هذه البرامج، والذين كان معظمهم لا يدركون كيفية استخدام هذه البرامج في تسيير الأعمال اليومية، وكان العمل في مراحله الأخيرة لتطبيق نظام "دي أم أس" في لإدارة التوزيع في مراحله الأخيرة وهنالك نظام "كى بي آي" لمراقبة مؤشرات الأداء فضلاً على أن العمل كان جارياً في العديد من المشاريع الأخرى لتطوير الأداء وتقديم أفضل الخدمات للعملاء، وهو الأمر الذي يستحق عليه رئيس الهيئة، الشيخ ذياب بن زايد آل نهيان، مع الفريق العمل معه كل الثناء والتقدير على هذه الإنجازات.
ويختتم هرهرا حديثه قائلاً: " كثيراً ما سألني الناس لماذا عملت هذه الفترة الطويلة في مؤسسة واحدة؟ هل كان ذلك بسبب العائد المادي الكبير الذي كنت تتلقاه؟ وإجابتي كانت دائماً جاهزة: لا، ففي عام 1978 كنت على وشك الالتحاق بشركة أدما، أبوظبي للبترول، في مكتبها الرئيسي في أبوظبي بمقابل مادي أفضل بكثير مما كنت أتلقاه في الدائرة في تلك الأيام وبالفعل وقعت على العقد معهم، ولكن السيد شيبة خميس الشرياني، الذي كان يشغل منصب وكيل الدائرة في ذلك الوقت، لم يقبل استقالتي وقال لي بالحرف الواحد: "إنك ستفتقد الحب والاحترام الذي تجده من رؤسائك وزملائك والعاملين معك هنا" وهو كان محقاً في ذلك".
ويضيف: "إن خدمتي الطويلة مع دائرة المياه والكهرباء، ومن ثم شركة أبوظبي للتوزيع، هي ماضيي الذي لا أنساه أبداً ولقد تمتعت بكل لحظة فيه وكل حبة عرق بذلتها خلاله".